الصفحات

الجمعة، يوليو 27

إكسترا براءة

كم من الإرباك يصيب الشخص إن واجه موقفًا جديدًا عليه، فكيف إن كان علاوة على جِدته أمرًا يُحذر منه، وتردد الألسنة قصصًا مبالغًا فيها حوله..
وقد سردت عليه تعاليم صارمة قبل أن يُقبل عليه: لا تلبس هكذا، أبتعد عن الألوان الصارخة، لا ترتدي أي شيء يثير الإنتباه، لا يكن فيما تلبس أي شيء يصدر صوتًا مشتت، إن حدث كذا فأفعل كذا ولا تفعل كذا، لا تصرخ، لا تُوضح خوفك، لا تُظهر عاطفة تضرك!…
كيف للمرء أن لا يقلق وقد حوصر بكل هذا، وما يمشي إليه قد عزل عن مجتمعه؛ فلا يعرفه، وتُقول عليه الأقاويل، وتندر عليه في أعمال الدراما والحكايات، وصار وضعه وصمة عار، وشتيمة تتنقل بين الكبار والصغار.
"مجنون، متخلف، معاق…"
دلفت إلى معهد التربية الفكرية بقلبٍ وجل، وقلق كثير، وكلمات الدكتور -في المحاضرة الفائتة- تكر نفسها في رأسي "قد تتلقون الضرب من ذوي الإعاقة الفكرية ، لا تخافوا، نادرًا ما يحدث حسب مستوى العدوان لدى بعض الحالات".
جررت قدماي كأنما أساق إلى عذاب، أصلحت هندامي كيفما أتفق، انضممت لزميلات الجامعة المتخوفات.
والخوف عندما نكون جماعة تخف وطأته.
شجعنا بعضنا، وذهبنا إلى الساحة، الطالبات في طابورهن الصباحي يرددن أذكار الصباح، يرتلن القرآن، وينشدن لبلد لا تبر بهن.
تم تقسيم طالبات قسم التربية الخاصة (المستجدات) على الفصول، ذهبت كل واحدة لفصلها، وذهبت لفصلي.
وضربنا بالحقيقة، بما حرمنا منه هذا العزل الذي لم ينزل الله به من سلطان.
إعاقة فكرية: أي تدني بمستوى الذكاء، وقصور في اثنين أو أكثر من مهارات السلوك التكيفي كالقدرة على العناية بالذات…
ويكون على ثلاث مستويات…
هكذا اخبرونا، هكذا كُتب ودرس..
أما أنا فأقول: انخفاض في الذكاء وارتفاع في العاطفة، فشل في مطابقة شكلين ونجاح في حب غير مشروط.
هو أن يحبونك قبل أن يتمكنوا من حفظ اسمك، أن يغرقونك بأحضانهم فقط لأنك أنت، أن يُقبلوك في كل جيئة وذهاب؛ لأنهم بالفطرة يعرفون أن كل إنسان يكون أفضل معهم إن أغدقوه بالحنان.
كيف لا تزول كل الصور المشوهة التي كانت في مخيلتك عنهم وهم يطبعون القبل على يديك دونما سبب، ويحيطون بأذرعهم الصغيرة قدميك بكل ما أتوا من دفء؟!
يضحكونك مهما تجهمت، يوهمونك أن إنشاء علاقة جديدة غاية في السهولة.
من أفواههم تنبثق البسمات الطاهرة ويشع لها قلبك، تراهم يسندون بعضهم، الأعرج يتسابق صحبه إليه لمساعدته، من يمشي يجر كرسي صديقه المدولب دونما ملل، ومن يقدر على تحريك يديه يرفع نظارة صديقه الذي لا يقدر على رفعها بسبب إعاقته، وهنا من يطعم من شلت يداه، وذاك يلكز بأصبعه صاحبه ضعيف السمع لينتبه للنداء، وثمة من يعيد كلام من يعاني علة في نطقه ليُفهم وتلبى حاجته...
لُحمة يذوب لها القلب حبًا وتذرف لها العين رحمة.
أسأل نفسي: كيف وجدتهم؟
- أطفال ببراءة مضاعفة، أطفال مهما أمتد بهم العمر.
كنت أحسب الطفولة الدائمة ضربًا من المستحيل حتى التقيتهم.

هناك 9 تعليقات:

  1. تفكيرك عظيم .. ومقالك هذا نهر لذة للفاهمين ()
    - يبدو أن ثمة أخطاء إملائية لم يُنتبه لها شوهت هذه العظمة بنزرٍ يسير. -

    ردحذف
  2. صبآحك الرحمات ..

    يالله ، كم شوقتني لرؤيتهم ، كان الخوف يتملك جزء مني
    لاشيء يضاهى العطاء والرب ، تمنيت لو انهي دراستي عاجلا ..

    شكرا لكِ ياانيقة
    كل اللحظات عشتها معكِ ، وآحسستُ بها ..

    قدرك الرحمن على الخير واعانك
    وُفقتِ ..

    * طالبة تربية خاصة

    ردحذف
  3. أبدعتي في وصفهم ..
    لطالما حاولت التعبير عنهم
    ولكن في كل مره يخونني التعبير
    شكراًًلك ..

    ردحذف
  4. ماشاء الله ابدعتي وصف جمييل و معبر
    اتمنى اعيش هاللحظات
    الله يوفقك،،

    ردحذف
  5. ازادك الله واثابك كم لكلماتك اثر على نفسي
    احبك وافخر بصداقتك
    روان الوادعي

    ردحذف
  6. ازادك الله واثابك كم لكلماتك اثر على نفسي
    احبك وافخر بصداقتك
    روان الوادعي

    ردحذف
  7. ازادك الله واثابك كم لكلماتك اثر على نفسي
    احبك وافخر بصداقتك
    روان الوادعي

    ردحذف
  8. مساؤك أثيرٌ يا أثير.

    ما كتبتِ هذه المرّة يختلف عن نمط كتاباتك الأخرى، فلم يكن عن فراقٍ أو بعدٍ أو لوعة تبعاً لذلك أو ذاك، بل كان موضوعاً إنسانياً يتكلم عن فئةً اجتماعيةً ليسوا محطّ أنظار الكثير، وإن كانوا كذلك فهم موضع شفقةٍ ورحمة وهو المختلف تماماً قرأت هنا.

    أبدعتِ في وصف إنسانيّتهم ورقة نفوسهم وحسن تعاملهم حتى يتمنّى واحدنا أن يقابلهم حقاً!

    لم أتعامل بشكلٍ مباشر مع ذوي الاحتياجات الخاصة من قبل، ولكن أيسر ما أصفها به أنها كانت بالأمس "مخيفة" والآن أظنّها ستكونُ غنيّة وثريّةإن شاء الله .

    والأسلوب الروائي ملفتٌ بالمناسبة :)

    كوني بخير

    ردحذف
  9. هم هكذا ..
    كل فئه سواء كانت متعافيه او كانت من ذوي الإحتياج الخاص .. وانا هنا امثل عنصريتي الطاغيه لدعم لفظ ذوي إحتياج خاص وليس معاق ..
    لعل المعاق هو صحيح الذهن والجسد ولكن لايستطيع التعامل معهما بشكل صحيح ..
    مو هذا موضوعي
    كل فئات المجتمع .. عندما تتشارك معهم أبجديات الحياة يظهر رونق لهذه العلاقه خصوصا عندما تبنى على الحب وعلى الثقه .. فما بالك عندما تكون هذه العلاقه بينك وبين ذي إحتياج خاص ..
    هنا اتكلم عن صعوبات لايعلم فيها إلا الله .. ومع هذا كله تكون العلاقه بينك وبين هذا الشخص لها من الصفات مالم تحققه الأم أو الأب أو الأخت أو الأخ..
    ومع هذا تتحقق العلاقه وتصبح كوسام نصر .. لمن أبى إلا أن يراعي هذه الفئه .. والحديث يطول ..

    رائعه أتحفت فيها ناظري .. تستحق التأمل في كل ما فيها من معاني وصور .. وإبداع تمثيلي قصصي .. تشرفت بالمرور عليه

    !!

    ردحذف